الصوم وإخماد الشهوة
ما أحلى لقاءنا اليوم، في شهر الخير والركة والرحمات، فلنستثمر هذه الفرصة السانحة الرائعة وننوي جميعا مع قراءتنا لحروف هذا المقال أن نمضي وقتنا في عبادة الله وفي طاعته، لنكون مثل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يتاجرون بنواياهم، ويالها من تجارة رابحة، دعونا لا نضيع وقتنا هباء يا أصدقائي، فالوقت هو رأسمالنا الوحيد في هذه الحياة، والضائع منه لا يمكن تعويضه، فلنستغله إذن في كسب أكبر كم ممكن من الثواب ولنثقل به ميزان حسناتنا وخاصة في هذه الأيام الفضيلة، عسى ذلك أن يشفع لنا يوم المشهد العظيم..

وقبل أن أسترسل في خطتنا المستقبلية للأيام والشهور اللاحقة لهذا الشهر الكريم أريد أن أجيب عن سؤال قد ورد في رسالة وانفعالي بمضمونها جعلني أتجاوز عن تفاصيلها، ولكن ما استوقفني هو ورود ذات السؤال من عدد كبير من الشباب على بريدي الإلكتروني، وأيضا تلقيت نفس السؤال من الكثير من طلابي خلال إلقائي لمحاضراتي في كلية الطب، ولذلك كان من المفيد أن أجعل الإجابة للجميع...

أما هذا السؤال فهو:
هل الشباب الذين لا يشعرون بقلة الرغبة أثناء الصيام -الذين لا يؤثر الصيام في رغبتهم الجنسية الجارفة- طبيعيون أم أن هناك ما يسوء في صحتهم عامة أو في هرموناتهم أو في صحتهم الجنسية خاصة؟

وأود أن أبدأ حديثي بأن أعرض أحد أكبر النعم التي أنعم الله بها على خلقه وهي وجود الجهاز العصبي المركزي والذي تنقسم وظائفه إلى وظائف عضوية ووظائف نفسية (وتلك الأخيرة خاصة بالجنس البشري دون غيره) وتلك الوظائف النفسية هي ما يهمنا في هذه الحالة التي نتحدث عنها تحديدا، ولنكن أكثر دقة فنقول إن ضمن هذه الوظائف النفسية وظيفة في غاية الأهمية وهي البرمجة العصبية، وهي أن يقوم الجهاز العصبي ببرمجة أحاسيس الإنسان بل أيضا الوظائف الفسيولوجية حسب الظروف المحيطة به والمعطيات التي يخضع لها، وهي بطبيعة الحال متغيرة باستمرار من وقت لآخر ومن مكان لآخر، ولتقريب المسألة من الأذهان ببساطة شديدة، فمثلا لا يقابل أي منا ضيوفه بملابس نومه، ولا يذهب حفلا رسميا بجينز وتي شيرت مثلا، وذلك لأن جهازه العصبي قد أرسل إشارات على مستوى الاستيعاب للعقل الواعي يرشده فيها إلى ما يجب عمله وما لا يجب عمله بناء على معلومات سابقة التحميل.

أيضا نلاحظ أن الإنسان لا يشعر بالجوع والعطش خلال شهر رمضان الفضيل كما يشعر بهما في ذات الساعة من النهار في الأوقات الأخرى، هذا أيضا لأن الجهاز العصبي قد برمج مراكز الجوع والعطش على ألا تستثار وعلى ألا تلح في إرسال الإشارات العصبية الداعية للإنسان أن يأكل أو يشرب، إنها حقا منظومة رائعة، وغيرها أمثلة كثيرة وكثيرة.

فإذا طبقنا هذه العمليات ذاتها وهذه القدرة الهائلة للجهاز العصبي على التحكم في رغبات الإنسان وتصرفاته بناء على معلومات سابقة التحميل كما أسلفنا سنجد المسأله كلها تكمن في تلك المعلومات التي سبق وأدخلها الإنسان ذاته إلى جهازه العصبي، تماما مثل الكمبيوتر الذي لا يستطيع قراءة الملف إلا إذا كان محملا بالبرنامج اللازم لذلك، فإذا طبقنا ذلك على الغريزة الجنسية وهي قطعا أقل قوة في إلحاحها من الطعام والشراب أو الجوع والعطش فسنجد أن المسألة برمتها راجعة إلى الإرادة القوية للإنسان فإذا انتفض متحمسا وقرر الترفع عن شهوته الجنسية، فلن يكون لها هذا الإلحاح الموجود في الأوقات العادية (أي في غير شهر الصوم)...

أما إذا انحصرت ترجمة الصيام كعبادة روحانية في الامتناع عن الطعام والشراب حتى أذان المغرب فبالقطع لن يتوقف إلحاح الشهوة وخاصة إذا تمت تغذيتها بتلك الخيالات والتصورات ذات الملامح الجنسية، والتي تثير الشهوة ولا تخمدها، بل تشوه الصوم أيضا الذي يجب أن يمتلئ بالترفع عن الشهوات الجسدية بما فيها الجنسية حتى بين المتزوجين، فما بالنا بالشباب أمثالكم والذين يمكن أن يوقعهم هذا الإمعان في التركيز في متطلباتهم الجنسية في خطأ كبير مثل القيام بالعادة السرية أو ربما أكبر من ذلك، إلا من رحم ربي.

فيا أيها الشباب، بناء على ما تقدم، اعلموا أن الشهوة تبدأ في الجهاز العصبي المركزي، كما أن نقصانها أو زيادتها يختلف باختلاف شيئين أحدهما لا إرادي وهو استحضار الخيالات وأحلام اليقظة التي توقظ بدورها إلحاح الغريزة والتي يعتقد البعض فيها ظلما أنها لا رادع ولا قاهر لها.

فأنتم جميعا طبيعيون يا أصدقائي، ولكن لنأخذ بالأسباب ولننشغل بأمورنا الدراسية والعملية والرياضية، وأيضا العبادية والقرآنية ولنحسن إلى الله في صيامنا وصلاتنا وقيامنا حتى يحسن هو إلينا يوم الوقوف بين يديه، حتى نحصل على خير جزائه الذي وعد به في حديثه القدسي الذي ورد على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- "كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" صدق الله العظيم وصدق رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.

أما عما يجب أن نفعله بعد رمضان إن شاء الله فأولا لنحتفل بعيد الفطر المبارك بكل فرحة واستمتاع، ولكن بشكل يرضى الله عنا ولننتبه يا أصدقائي أن الشيطان يقف بالمرصاد هو وأتباعه من الإنس والجن، ويتربص بنا وينتظر بفارغ الصبر لحظة إزالة السلاسل عنهم حتى ينطلقوا إلى عالم الدعوة إلى المعاصي فما يحترق الشيطان به هو كثرة الطاعات التي يتحمس لها الإنسان في رمضان مما يكسبه معها ثوابا كثيرا، ولذلك فهو يسعى دائما ليخسر هذا السعي ويضيع عباداتنا هباء بأن يعادلها بذنوب يدعونا لاقترافها توا بعد فراغنا من أيام الشهر الكريم...

فلننتبه يا أصدقائي وأحبائي، وأخص هنا الشباب والفتيات تحديدا والذين قد قدرهم الله تعالى بفضله على الإقلاع عن واحدة أو أكثر من المعاصي التي كانت موجودة في حياتهم سلفا، فلنتمسك بالتوبة والإصرار على الإقلاع عن الذنب بكل قوة، كيلا نشمت بنا إبليس وذريته، ولنضع في حساباتنا أيضا ودائما الصحبة الصالحة، والتي ترقى بنا إلى منازل أعلى عند الله، ونبتعد عن صحبة السوء من ضعفاء الإرادة والتابعين لوساوس الشيطان، فأولئك ليس وراءهم إلا الخسران ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ولنرَ معا قول الله تعالى في وصفه لأحد مشاهد يوم القيامة في الآيات الكريمة التالية:

"الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا (26) ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا (27) يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا (28) لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا (29)". سورة الفرقان

كل هذا يا أصدقائي أوصي به نفسي وإياكم، كما أوصيكم بأن تنصحوا به من تحبون، وكل عام وأنتم بخير ....رمضان كريم